ترامب يُعيد تشكيل الدبلوماسية الأميركية… لكن بثمن باهظ
بعد ثمانية أشهر على بدء الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، تتزايد المخاوف داخل وزارة الخارجية الأميركية من أن سياساته الجديدة لا تعيد إحياء الدبلوماسية كما وعد، بل تُقوّضها وتضعف نفوذ الولايات المتحدة عالميًا.
وتكشف شهادات عشرات الدبلوماسيين والمسؤولين السابقين عن أزمة عميقة في جهاز طالما كان يُعتبر العمود الفقري لسياسة واشنطن الخارجية.
إذ تشير البيانات الرسمية إلى أن أكثر من 110 منصب سفير من أصل 195 ما زالت شاغرة، فيما لم تُرشّح الإدارة مرشحين لأكثر من 60 سفارة حتى الآن. هذا الفراغ غير المسبوق جعل البعثات الدبلوماسية في عواصم رئيسية تعمل بموارد محدودة وبقيادات مؤقتة تفتقر غالبًا إلى الخبرة.
إلى جانب ذلك، بات تقييم الدبلوماسيين يعتمد بشكل متزايد على “مدى إخلاصهم” لسياسات الإدارة، وفق قواعد جديدة أقرتها وزارة الخارجية.
والدبلوماسيون الذين يعارضون قرارات أو يقدمون تحليلات غير مرغوبة يُقصَون من مهامهم، فيما يخشى آخرون من التعبير عن رأيهم خشية الفصل أو عرقلة ترقياتهم.
إعادة هيكلة مثيرة للجدل
وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي يشغل في الوقت نفسه منصب مستشار الأمن القومي بالإنابة، يقود عملية إعادة تنظيم واسعة تهدف ـ بحسب ما يقول المتحدث باسم الوزارة تومي بيغوت ـ إلى جعل الوزارة “أكثر مركزية وتأثيرًا في صنع القرار”.
لكن الدبلوماسيين يرون أن هذه الإصلاحات ليست سوى وسيلة لتحويلهم إلى منفذين أوامر بدلًا من صانعي سياسات، وهو ما يضعف روح المبادرة والابتكار التي ميّزت الخارجية الأميركية لعقود.
وقد تم تقليص مكاتب حقوق الإنسان والديمقراطية، وخُفّضت أولوية المساعدات الإنسانية، بينما جرى تعزيز الجهود الرامية إلى الترويج للشركات الأميركية وتشديد سياسات الهجرة.
وبالنسبة للكثير من الدبلوماسيين، تعكس هذه التغييرات رؤية ترامب لـ “أميركا أولًا”، لكنها تأتي على حساب سمعة الولايات المتحدة كمدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ثقافة الخوف والصمت
في العديد من السفارات، تسود أجواء من الرقابة الذاتية. مذكرات داخلية صادرة عن جمعية الخدمة الخارجية الأميركية حذّرت من أن موظفين جُرّدوا من مهامهم لمجرد تقديم توصيات غير مرحب بها.
ونتيجة لذلك، بات الدبلوماسيون يتجنبون استخدام القنوات التقليدية لرفع الاعتراضات السياسية، مثل “قناة المعارضة” الشهيرة.
وقد لجأت بعض السفارات إلى تعليمات غير مكتوبة تُلزم الموظفين بمناقشة أي مسألة حساسة “وجهًا لوجه”، وسط مخاوف من احتمال تثبيت برامج مراقبة إلكترونية. ورغم نفي الوزارة لهذه المخاوف، إلا أن الشكوك المتزايدة تقوّض الثقة الداخلية وتعزز الشعور بأن كل خطوة مرصودة.
نفوذ شخصيات هامشية
ترتبط مخاوف أخرى بتأثير شخصيات خارجية على صنع القرار. فبحسب مصادر في الخارجية، لعبت المؤثرة اليمينية لورا لومر دورًا في دفع الوزير روبيو إلى تعليق إصدار التأشيرات للفلسطينيين من غزة، في خطوة مثيرة للجدل.
كما طالبت بعض الأصوات المقربة من ترامب بطرد دبلوماسيين مسلمين، وهو ما اعتُبر دليلاً على تغليب الولاءات الأيديولوجية على المهنية.
وفي مكتب شؤون الشرق الأوسط، اشتكى دبلوماسيون من أن المسؤولة العليا مورا نامدار رقت موظفين أقل خبرة لكنها أكثر ولاءً للإدارة، على حساب كوادر متمرسة. مثل هذه الممارسات تثير امتعاضًا واسعًا في صفوف السلك الدبلوماسي الذي يشبّه الأمر بـ “خضوع الجنرالات لعُرَفاء”.
غياب الاستراتيجية
يؤكد الدبلوماسيون أن ما يزيد الطين بلة هو غياب آلية واضحة لصنع القرار.
ففي السابق، كانت السياسة الخارجية تُصاغ عبر عملية معقدة تشمل وزارات الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي. أما الآن، فيُختصر الأمر في مجموعة صغيرة من مستشاري البيت الأبيض المقربين من ترامب، الذين يبلورون السياسات ثم يطلبون من بقية المؤسسات تنفيذها دون نقاش.
هذا النمط أدى إلى ارتباك واسع. على سبيل المثال، أمر تنفيذي أصدره ترامب في أغسطس/آب بشأن منح المساعدات الخارجية تسبب في فوضى داخلية، إذ قدّمت مكاتب مختلفة في الخارجية تعليمات متضاربة للدبلوماسيين حول كيفية تطبيقه.
انعكاسات على صورة واشنطن
الفراغ القيادي والتخبط البيروقراطي لا يمران مرور الكرام لدى الحلفاء والخصوم.
فقد تزايدت شكاوى العواصم الأوروبية من أن السفارات الأميركية باتت عاجزة عن توضيح مواقف واشنطن أو الدفاع عنها بشكل مقنع.
ويؤكد دبلوماسيون أن هذا الوضع يقوض مصداقية الولايات المتحدة ويضعف قدرتها على حشد الدعم الدولي لمبادراتها، سواء في أوكرانيا أو الشرق الأوسط أو آسيا.
وحذر السفير الأميركي السابق في أفغانستان رونالد نيومان من أن قمع النقاش الداخلي يجعل الإدارة “تتعثر بشكل أعمى في مخاطر كان يمكن تجنبها”، مضيفًا أن الولاء للقرارات لا يعني إسكات الأصوات المهنية.