تصعيد جديد في الحرب الاقتصادية بين واشنطن وبكين
في تطور جديد وتصعيد غير متوقع في الحرب الاقتصادية التجارية الأمريكية-الصينية، اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصين بانتهاك “تمامًا” اتفاق وقف الرسوم الجمركية الذي أُبرم بين البلدين في مايو 2025.
جاء هذا الاتهام وسط حالة من التوتر وعدم اليقين التي تهدد مسار المحادثات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، وتطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل العلاقات التجارية بين واشنطن وبكين.
خلفية الاتفاق التجاري ومحتواه
في 12 مايو 2025، أعلنت الولايات المتحدة والصين عن هدنة مؤقتة مدتها 90 يومًا، إثر محادثات في جنيف، هدفت إلى تخفيف حدة النزاع التجاري الذي استمر لسنوات وأضر بالاقتصاد العالمي.
اتفقت الدولتان على تخفيض متبادل للتعريفات الجمركية التي فرضها كل طرف على الآخر، حيث خفضت الولايات المتحدة التعريفات الجمركية على البضائع الصينية من مستويات مرتفعة بلغت 145% إلى 30%، وهو خفض كبير قلّص من وطأة الضرائب الباهظة التي كادت تُغلق الباب أمام التجارة بين البلدين.
كان الهدف من هذا الاتفاق منح الوقت للجانبين لاستكمال المفاوضات وحل الخلافات العالقة المتعلقة بالملكية الفكرية، دعم التكنولوجيا، والسياسات التجارية، وتخفيف الضغط على الشركات والمستهلكين في كلا البلدين.
اتهام ترامب وانعكاسات السوق
بعد أسابيع من الهدوء النسبي في العلاقات التجارية، أطلق ترامب تصريحاته المثيرة يوم الجمعة 23 مايو، عبر منصة “تروث سوشيال”، حيث كتب: “بفضل هذه الاتفاقية، استقرت الأمور بسرعة، وعادت الصين إلى وضعها الطبيعي. كان الجميع سعداء! هذا هو الخبر السار!.
وتابع “أما الخبر السيئ، فهو أن الصين، وهو أمر ليس مفاجئًا للبعض، انتهكت اتفاقها معنا تمامًا. وهذا يكفي لكونها رجلًا لطيفًا!”.
وقد أثار هذا التصريح قلق المستثمرين، وسرعان ما انخفض مؤشر S&P 500 بحوالي 0.3% في تعاملات ما قبل السوق، قبل أن يعيد جزءًا من خسائره لاحقًا. ورغم هذا التراجع، ما زال المؤشر مرتفعًا بنحو 5% منذ الإعلان عن الاتفاق، مما يعكس حالة الترقب الحذرة في الأسواق.
التوترات الحقيقية خلف الكواليس
تتزامن اتهامات ترامب مع تصريحات سابقة لمسؤولين أمريكيين، مثل وزير الخزانة سكوت بيسنت، الذي وصف المحادثات بأنها “متوقفة بعض الشيء”، مما يشير إلى أن الجهود الدبلوماسية لم تحرز تقدماً ملموساً.
وتشير المصادر إلى أن نقاط الخلاف الجوهرية لم تُحل، لا سيما في ما يتعلق بضوابط تصدير تقنيات الرقائق الإلكترونية والتكنولوجيا المتقدمة، التي تعتبرها الصين مسألة أمن قومي، بينما تراها الولايات المتحدة تهديدًا لمكانتها التكنولوجية.
ردًا على تصريحات ترامب، أكدت السفارة الصينية في واشنطن موقفها بأن الصين لا تنتهك الاتفاق، بل أشارت إلى أنها أبلغت الحكومة الأمريكية بمخاوفها بشأن القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على صادرات قطاع الرقائق، وطلبت منها “تصحيح تصرفاتها الخاطئة” والتمسك بما تم الاتفاق عليه في محادثات جنيف.
هذا الرد يعكس تعقيد الموقف وحقيقة أن الخلافات لا تقتصر فقط على الرسوم الجمركية، بل تتعمق في مجالات التكنولوجيا والسياسات الأمنية.
البعد القانوني والسياسي
على الصعيد القانوني، تواجه التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب تحديات قضائية في المحاكم الفيدرالية الأمريكية.
فقد قضت إحدى المحاكم بأن بعض هذه الرسوم غير قانونية، رغم أن تنفيذ هذا الحكم قد تم تعليقه مؤقتًا. يضيف هذا بعدًا جديدًا للتوتر، حيث قد تضطر الإدارة الأمريكية القادمة إلى إعادة النظر في هذه السياسات، ما قد يؤثر على ديناميكية العلاقات التجارية.
سياسيًا، تأتي تصريحات ترامب في سياق حملته الرئاسية المحتملة لعام 2028، إذ يسعى إلى استعادة مكانته كزعيم يواجه الصين بحزم، وهو ما يلقي بظلاله على السياسة الأمريكية الرسمية التي تميل أحيانًا إلى تبني نهج أكثر توازنًا.
تداعيات التصعيد التجاري
إعادة التصعيد في الخلاف التجاري بين أمريكا والصين تحمل تداعيات واسعة على الاقتصاد العالمي:
التأثير على سلاسل الإمداد العالمية: تعريفة جمركية مرتفعة تعني ارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل، ما قد يدفع الشركات إلى إعادة النظر في مواقع التصنيع واستيراد المواد، مع ما يترتب على ذلك من تعطيل سلاسل التوريد.
ارتفاع تكاليف المستهلك: الرسوم الجمركية تزيد من أسعار السلع، ما يضغط على ميزانيات المستهلكين ويخفض القوة الشرائية، خصوصًا في الولايات المتحدة التي تعتمد على واردات كبيرة من الصين.
التهديد بالنمو الاقتصادي: الاقتصادان الأمريكي والصيني يشكلان أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأي توتر بينهما ينعكس سلبًا على النمو الاقتصادي العالمي.
تأثير على أسواق المال: ارتفاع حدة التوترات يؤدي إلى تقلبات في الأسواق المالية وزيادة المخاطر الاستثمارية.
ماذا بعد؟
يبقى السؤال الأهم: ما الخطوة التالية في هذا الملف المعقد؟
الموعد النهائي للهدنة الحالية هو 12 أغسطس 2025، حيث يتوقع أن تتقرر إمكانية تمديد الاتفاق أو رفع الرسوم الجمركية مجددًا، وربما تصعيد النزاع. في ظل الاتهامات المتبادلة، يبدو أن المفاوضات قد تتجه إلى طريق مسدود ما لم تحدث تحولات دبلوماسية كبيرة.
كما أن الإدارة الأمريكية الجديدة، سواء بقي الرئيس جو بايدن أو تغيرت القيادة، ستكون أمام تحدي كبير لإيجاد صيغة توازن بين حماية المصالح الاقتصادية الوطنية والضغط على الصين للامتثال للشروط التعاقدية، دون أن تؤدي إلى حرب تجارية مطولة تكلف الاقتصاد العالمي كثيرًا.
اتهامات ترامب للصين بانتهاك اتفاق وقف الرسوم الجمركية تعيد إحياء التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم في مرحلة حرجة. رغم الاتفاق المبدئي، تبدو العقبات الفنية والسياسية كبيرة، وتضع مستقبل التجارة بين البلدين في حالة من الغموض. ويتوجب على كلا الطرفين العمل بجدية لتفادي تصعيد يؤدي إلى خسائر متبادلة، خاصة في ظل التقلبات الاقتصادية العالمية الحالية.
في النهاية، ستبقى هذه القضية محط متابعة دقيقة من المستثمرين والحكومات، حيث يمكن لأي تطور أن يؤثر بشكل كبير على الاقتصاد العالمي والاستقرار السياسي بين أكبر قوتين عالميتين.