كيف يمكن لأوروبا أن تملأ الفراغ الذي أحدثته الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي؟
يزداد القلق بين حلفاء الناتو في أوروبا بشأن التزام واشنطن بأمن القارة. فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي هدد سابقًا بالانسحاب من الحلف، بات يشترط زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي مقابل ضمان استمرار الدعم العسكري الأمريكي، مما يطرح تساؤلات حول قدرة أوروبا على الاعتماد على نفسها في مواجهة التهديدات الأمنية، خاصة من روسيا.
ولطالما شكلت الولايات المتحدة العمود الفقري لحلف شمال الأطلسي، إذ قدمت الدعم العسكري والتقني والنووي الذي مهد لاستقرار أمني طويل الأمد في أوروبا.
لكن سلوك ترامب غير المتوقع، وربطه الضمانات الأمنية الأمريكية بزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، بالإضافة إلى مواقف متذبذبة تجاه روسيا وحلفائها، جعل حلفاء الناتو يعيدون النظر في مدى اعتمادية واشنطن.
وزير الخارجية الليتواني السابق جابرييليوس لاندسبيرجيس يعبر عن هذا القلق: “بدلاً من انتظار بقاء الولايات المتحدة والتأكيد على التزاماتها، يجب أن نبدأ بالتفكير كيف سيعمل الحلف إذا لم تكن الولايات المتحدة موجودة أو لم تلعب الدور الذي اعتدنا عليه.”
وبالفعل، فإن الإدارة الأمريكية تدرس تقليص بعض القوات الأمريكية المنتشرة في أوروبا، وهو ما قد يترك فراغًا واضحًا في القدرات العسكرية للمنطقة.
التحديات الأوروبية
تُعد أوروبا غير جاهزة تمامًا لتحمل كامل عبء الدفاع عن نفسها. فحتى الدول الكبرى مثل فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وبولندا، التي تبدو كبديل محتمل للولايات المتحدة في قيادة الحلف، تواجه تحديات مالية وعسكرية وسياسية تجعلها أقل قدرة على فرض هيمنتها، مقارنة بالقوة الأمريكية الواسعة والنطاق.
يقول ضابط عسكري فرنسي رفيع المستوى: “الميزة الأمريكية كانت في تفوقها الواسع وقدرتها على جلب النظام إلى الحلبة دون منازع. بدونها، لن يكون هناك ‘رجل ألفا’ حقيقي قادر على فرض الهيمنة.”
ويضيف أن غياب القيادة الأمريكية قد يترك الحلف في حالة من التشرذم وعدم الوضوح، ما يزيد من مخاطر فقدان السيطرة على الأوضاع الأمنية.
واقع الاعتماد على أمريكا.. هل هو مستدام؟
على الرغم من المخاوف، يؤكد العديد من المسؤولين الأوروبيين أن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بحلف شمال الأطلسي، لكن التحولات واضحة.
وصرح السفير الأمريكي لدى الناتو ماثيو ويتاكر بأن واشنطن ستبدأ مناقشات مع الحلفاء حول تخفيض القوات الأمريكية في أوروبا بعد القمة الأخيرة، مؤكدًا التزام بلاده بالمادة الخامسة للدفاع المشترك، لكن شرط أن يزيد الحلفاء استثماراتهم الدفاعية.
في بولندا، إحدى الدول الأكثر قلقًا من التهديد الروسي، يقول نائب وزير الدفاع باول زاليفسكي: “خطاب ترامب يحفزنا على زيادة استثماراتنا في الدفاع، ونحن نرحب بذلك.”
التحديات المالية والعسكرية
تشكل تكلفة بناء قدرات دفاعية مستقلة كبديل للدعم الأمريكي عائقًا كبيرًا. دراسة حديثة للمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية تشير إلى أن استبدال المعدات والدعم الأمريكي، بما يشمل 128 ألف جندي وأنظمة متطورة كالأقمار الصناعية والضربات العميقة، قد يكلف أوروبا تريليون دولار على مدى 25 عامًا.
نوربرت روتجن، نائب ألماني، يؤكد: “هدفنا ليس استبدال الولايات المتحدة، بل استكمال قدراتها بقدرات أوروبية، فحتى الآن لا نمتلك رادعًا نوويًا موثوقًا كما تملكه واشنطن.”
الخوف من نبوءة تتحقق
واحدة من المخاوف الرئيسية هي أن تقدم أوروبا وتوليها مسؤولية أكبر قد يشجع الولايات المتحدة على تقليص مشاركتها، مما يزيد العبء على أوروبا دون توفير الدعم الكافي.
يوشكا فيشر، وزير الخارجية الألماني السابق، يحذر: “لا يجب أن نفعل شيئًا من شأنه أن يسرع خروج الولايات المتحدة من أوروبا.”
التوجهات المستقبلية
يرى بعض المحللين أن أوروبا ستضطر في نهاية المطاف إلى تبني دور أكبر في أمنها الخاص، مع الحفاظ على التعاون مع واشنطن. لكن هذا التحول يحتاج إلى توافق سياسي ومالي عميق داخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
كما يلاحظ باربرا كونز من معهد ستوكهولم لأبحاث السلام: “هناك خلاف بين الأوروبيين حول حجم المشكلة ومدتها. البعض يرى أن الأمور ستعود إلى نصابها بحلول 2028، والبعض الآخر يرى ضرورة التخطيط الفوري للبدائل.”
والفراغ الذي قد يتركه الانسحاب أو تقليص الدور الأمريكي في حلف شمال الأطلسي يشكل تحديًا تاريخيًا لأمن أوروبا. لكن الواقع السياسي والاقتصادي والعسكري المعقد في أوروبا يعني أن أي تحرك لاستبدال القيادة الأمريكية سيكون تدريجيًا ومشحونًا بالمخاطر، مع احتمالية بروز تحالفات فرعية تقودها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبولندا.
السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرار الولايات المتحدة كعمود فقري للحلف، لكن مع ضغوط أكبر على الدول الأوروبية لتطوير قدراتها الدفاعية، وإعادة التفكير في شكل التحالف وطريقة عمله لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين في ظل تحولات السياسة العالمية المتسارعة.