خبير دولي يتوقع سيناريوهات “معقدة” للرد الأمريكي على الاستدارة العربية
عمان – رويترد عربي | توقع الخبير في الدراسات المستقبلية وليد عبد الحي “سيناريوات معقدة للرد الأمريكي على الاستدارة العربية شرقًا”.
وفيما يلي نص مقال عبدالحي:
في الوقت الذي سعت فيه الولايات المتحدة الى كبح الصعود السلمي للصين بخاصة منذ سلسلة القرارات التي اتخذها ترامب بخاصة في فترة 2018 – 2020 وصولا لاستمرار هذه الإجراءات مع إدارة بايدن ، استشعرت الولايات المتحدة بوادر ” استدارة عربية” تجاه الصين، لكن جذور هذا الاستشعار لم يكن مع ترامب وبايدن بل منذ السنة الثانية لعهد باراك أوباما، عندما تفوق حجم التجارة العربية مع الصين على حجمها مع الولايات المتحدة (عام 2010) للمرة الاولى .
ويرتبط هذا القلق الأمريكي ببعد آخر وهو تفوق الصين في معدلات النمو الاقتصادي وبشكل واضح على معدلات النمو في الولايات المتحدة ، فقد نما الاقتصاد الصيني خلال الفترة من 1982 الى 2022 اربعة اضعاف معدل النمو الامريكي، ويكفي ملاحظة ان اجمالي الناتج المحلي الصيني قفز من 1.2 تريليون دولار عام 2000 الى 17.7 تريليون عام 2020، فإذا اعتمدنا مقياس الناتج المحلي على اساس المعادل الشرائي(purchasing power parity) وهو المقياس المعتمد لدى السي آي ايه(CIA) والبنك الدولي فان الصين متفوقة حاليا على الولايات المتحدة ، كما ان مجموع الشراكات التجارية الصينية مع دول العالم تفوقت على نظيرتها الأمريكية لتحتل المرتبة الاولى، ويكفي معرفة انه منذ الازمة الاقتصادية عام 2008 كانت الصين هي المحرك الأقوى للنمو الاقتصادي عالميا، بل واصبحت هي المركز لأكبر عدد من الشركات العملاقة ، كل ذلك جعل الولايات المتحدة تتحسس مكانتها الدولية في الاقتصاد العالمي ، وفي انعكاس ذلك على مركزها السياسي وتمددها السياسي والعسكري الزائد كما يصفه بول كينيدي.
والقول بأن العقوبات الامريكية على الصين هي رد فعل على التقارب الصيني والروسي هو أمر مجانب للحقيقة تماما، فالعقوبات بدأت قبل الازمة الاوكرانية ، ويكفي تذكر المعركة الامريكية مع الصين على محاولة واشنطن الضغط على الصين لرفع قيمة عملتها بعد أن تجاوز حجم التجارة الصينية الحجم الامريكي، ويكفي التنبه الى ان 8.6% من صدارات الولايات المتحدة تذهب للصين مقابل واردات أمريكية من الصين تشكل 17.9% من اجمالي الواردات الامريكية، وهو ما يعني ان واردات امريكا من الصين ضعف صادراتها اليها، وهو ما يشكل عجزا تجاريا كبيرا لصالح الصين وصلت قيمته عام 2022 الى حوالي 383 مليار دولار.
وبعد عام من الحرب الاوكرانية ، ورغم كل الاجراءات الامريكية ضد روسيا ومحاولة ارهاقها اقتصاديا، فان النتائج المتحققة لا تتناسب مع الاوهام التي افترضتها الولايات المتحدة، فاذا كان الامر كذلك مع روسيا ، فكيف يكون الامر مع الصين التي يصل حجم اجمالي ناتجها المحلي الى سبعة اضعاف حجم الناتج المحلي الروسي( على اساس معادل القوة الشرائية ) والذي تتفوق فيه الصين على الولايات المتحدة بحوالي خمسة تريليونات دولار(طبقا للبنك الدولي).
من جانب آخر، فان الدولار ورغم هيمنته الحالية ، سيواجه المزيد من الضغط في نصيبه في التجارة الدولية والاجتياطيات النقدية، فمنذ اصدار اليورو الاوروبي صار نصيب العملة الاوروبية من الاحتياطيات النقدية العالمية حاليا 20.6%، ومع سلسلة الاجراءات الصينية وسلسلة اجراءات البريكس والميل التدريجي لتجارة المقايضة او تقييم اسعار مصادر الطاقة بغير الدولار واعتماد العملات المحلية في قطاعات تجارية ، كلها اجراءات تزيد من الضغط على الاقتصاد الامريكي، اضافة الى أن هناك 338 شركة أمريكية كبرى تعمل حالياً في الصين، منها 90 شركة تبيع كل إنتاجها داخل الصين، وبالمقابل هناك 2,400 شركة في الولايات المتحدة يسيطر عليها رأس المال الصيني.، اضافة الى أن %19 من ديون الولايات المتحدة هي صينية تبلغ حوالي 1.17 تريليون دولار، كما أن 2.6 مليون موظف أمريكي يعملون في شركات تنتج سلعها لتغطية حاجة السوق الصيني.
ومن المؤكد ان الضغط الامريكي له آثاره على الصين، وبخاصة في بعض القطاعات التكنولوجية مثل اشباه الموصلات وغيرها مما له علاقة بتطور الذكاء الاصطناعي وقطاع الاتصالات والالكترونيات، لكن الصين ومنذ عام 2015 وضعت خطة تمتد حتى عام 2025 لانفاق 1.68 تريليون دولار على الذكاء الاصطناعي لتتحول مع عام 2030 الى الدولة الاولى في هذا القطاع، ولعل نسبة الاقتباس في بحوث هذا القطاع تشير الى ان الصين ستتجاوز الولايات المتحدة عام 2026.
وعند حساب تأثيرات الحصار الاقتصدي الامريكي على الصين يتبين أنه خلال الفترة من 2017 الى نهاية 2022 كان معدل النمو الاقتصادي الصيني على النحو التالي:
2017: كان معدل النمو الصيني 6.95
2020: تراجع الى 5،87% بسبب الكورونا وهو ما جرى في اغلب دول العالم
2021 :تعافى الاقتصاد الصيني وبلغ 8.4%
2022 تراجع الى 3% بسبب الاضطراب الاقتصادي الناتج عن الحرب الاوكرانية، وهو تراجع عرفته كل الدول الصناعية المتقدمة بسبب جنون اسعار الطاقة في مرحلة اولى وبسبب التغيرات الاقتصادية والتضخم وارتفاع اسعار الفائدة على حساب الاستثمار …الخ.
ذلك يعني ان الاثر الاقتصادي للعقوبات الامريكية على الصين لتقاربها مع روسيا لن يكون له إلا تاثيرا هامشيا وستتجاوزه الدولتان ، بل ان المؤشرات توحي ان العالم اخذ يهرول الى بكين لمساندة مبادرتها للسلام في اوكرانيا، وفي نفس اللحظة التي تزداد العلاقات الروسية الصينية تكاملا، وهو ما سيعزز الخلل لغير صالح واشنطن.
ان التحول في القوة سيزداد لغير صالح الولايات المتحدة( وهو ما تؤكده أغلب دراسات الاكاديميين المرموقين في الولايات المتحدة مثل بول كينيدي، وجون غالتنج …الخ)، وعند تطبيقنا في احدى الدراسات لنماذج قياس القوة ( نموذج ديفيد سنجر،وادوارد مانسفيلد والصيني يانغ جيمين) تبين لنا ان توزيع القوة بين القوى العظمى هو على النحو التالي بقياس 24 مؤشرا :
-الولايات المتحدة الاولى بنسبة 37.40
-الصين الثانية بنسبة 34.50
-روسيا: الثالثة بنسبة 28.10
ورغم تحفظات بعض العلماء الروس في فترات سابقة وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي على الصين من منظور تاريخي وجيواستراتيجي، الا أن التقارب الروسي الصيني مضافا له تسارع التطور الصيني بايقاع اسرع من الولايات المتحدة ، يعني ان المستقبل لآسيا ودون حساب التطور الهندي المتسارع والتطور الياباني .
في هذه الأجواء كلها، بدأت دول عربية تتخذ خطوات تدريجية للاستدارة شرقا، (وكنت قد اشرت لذلك في دراسة منشورة منذ ثلاثة اعوام سابقة) ، وتحديدا نحو الصين( صاحبة مشروع مبادرة الحزام والطريق والتي يجري التمهيد لها بتزايد واضح في حجم التجارة العربية معها وبشكل تفوقت فيه على كل منافسيها،) ثم مزيد من الاستدارة من دول عربية نحو روسيا لاسباب عسكرية وامنية وسياسية، ثم استدارة نحو ايران لاسباب داخلية وخارجية، وكل هذا بدأ يجد صداه لدى دوائر صنع القرار الامريكي..ويكفي التوقف عند بعض مظاهر هذه الاستدارة العربية شرقا:
1- تفوق التجارة الصينية مع العرب على الامريكية منذ 2010 ليصل الآن (2022) الى فارق لصالح الصين يصل الى 177 مليار دولار .
2- ارتفاع نسبة الطلاب العرب في الجامعات الصينية الكبرى بنسبة 26% خلال الاعوام العشر الماضية ليصل حاليا الى حوالي 17 ألف طالب.
3- فتح فروع للغة العربية في 50 جامعة صينية وفتح فروع لتدريس الصينية في 32 جامعة عربية ناهيك عن عشرات مراكز كونفوشيوس، بل ان مصر بدأت بفتح 12 مدرسة حكومية للتدريس بالصينية .
4- تداولت الصحف الغربية في نوفمبر 2021 ما قالت انه مشروع صيني لفتح قاعدة عسكرية في دولة الامارات ( الغارديان البريطانية، وول ستريت جورنال الامريكية، الاندبندنت البريطانية…الخ) ورغم التقارير عن التراجع عن الموضوع الا انه يشير الى توجهات كامنة خليجيا في هذا الجانب من ناحية وتوجهات صينية مستقبلية بدليل رفع الانفاق العسكري لعام 2023 بمعدل 7%، وهو رقم كبير من ناحية ثانية.
5- نجاح الدبلوماسية الصينية في التقريب بين السعودية وايران ، وتسارع ايقاع هذا التوجه في الوقت الذي تزور هذه الايام مدمرة روسية موانئ السعودية.
6- وجود قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي منذ 2017
7- اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين السعودية والصين بقيمة 30 مليار دولار في ديسمبر 2022، بل ان حجم تجارة الصين مع السعودية يساوي مجموع حجم تجارة السعودية مع امريكا والاتحاد الاوروبي معا.
8- الاتفاق السعودي الصيني على “التوفيق” بين أجندة خطة 2030 السعودية مع متطلبات مبادرة الحزام والطريق الصينية ، ولعل الاتفاق مع ارامكو يشير الى دلالات ذلك بوضوح.
9- ان الصورة الصينية في العقل الجمعي العربي لاتنطوي على بقع سوداء، لكن الصورة الامريكية لا تنطوي على بقع بيضاء، وهذه الصورة ستؤثر على المدى المتوسط على النخب والاحزاب، فالصين لا تساند كل حركة تخريب في العالم العربي ولا هي السد امام القرارات الدولية ضد اسرائيل ولا تنشر قواعدها عندنا بالشكل العدواني.
10- تزايد الاحساس العربي بتراجع اهمية الشرق الاوسط لدى الولايات المتحدة( تراجع وليس تخلي) عزز الميول العربية للاستدارة شرقا.
ماذا يترتب على المستقبل:
ستعمل الولايات المتحدة بداية على إعادة العرب للاتكاء على الجدار الأمريكي بطرق دبلوماسية وهو السيناريو الأول ، لكن احتمالات الفشل لأسباب مختلفة واردة ، وهنا فإني انبه الى السيناريو الثاني وهو ان منطقة الخليج التي يتغلغل النفوذ الأمريكي في كل اوصالها- بخاصة أجهزتها الأمنية والعسكرية وكل مؤسساتها الخشنة- ستعرف حالة من عدم الاستقرار العميق وبشكل سيتركز في الدولة المحورية في الخليج ، ولعل ما جرى مع الملك فيصل او ما يجري مع ‘عمران خان في الباكستان سوابق تاريخية وحاضرة وغيرها الكثير على الدور التخريبي الذي ستفعله واشنطن، وستجند له قواها الخشنة الأمنية والعسكرية وقواها الناعمة من اعلام ونخب وتنظيمات سياسية.
للمزيد| خبير يستعرض التحولات الثقافية في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية