منطقة شنغن تواجه أزمة منتصف العمر مع تصاعد الرقابة على الحدود
في الذكرى الأربعين لإنشاء منطقة السفر الحر الأكبر في العالم، تجد منطقة شنغن نفسها في مفترق طرق يهدد جوهر فكرتها: حرية التنقل دون حواجز.
فعلى الرغم من أن اتفاقية شنغن كانت منذ عام 1985 رمزًا لتكامل أوروبي متقدم، فإن الواقع اليوم مختلف تمامًا، مع عودة متصاعدة للضوابط الحدودية المؤقتة، ما يثير المخاوف من تفكك تدريجي للمشروع الأوروبي الطموح.
منذ بداية هذا الصيف، أعادت 11 دولة من أصل 29 في منطقة شنغن – منها ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، هولندا والنمسا – فرض قيود على حدودها الداخلية، تحت ذرائع تتراوح بين مكافحة الهجرة غير النظامية إلى التهديدات الأمنية.
وبينما توصف هذه التدابير بأنها مؤقتة، فإن واقع الحال يشير إلى أنها أصبحت حالة دائمة متكررة، تتجدد كل ستة أشهر دون أفق واضح لإنهائها.
تآكل تدريجي في المبادئ
“منطقة شنغن تذوب أمام أعيننا”، هكذا عبّر عضو البرلمان الأوروبي الإسباني خوان فرناندو لوبيز أغيلار عن قلقه العميق حيال تآكل أسس الاتفاقية. أغيلار، الذي كان في طليعة من سعوا لإعادة إحياء حرية التنقل بعد جائحة كورونا، يؤكد أن استخدام الدول للضوابط الحدودية بات “مفرطًا” ولا يستند إلى مبررات قانونية أو أمنية قوية.
ألمانيا، التي فرضت رقابة شاملة على حدودها العام الماضي، بررت ذلك بـ”التهديدات الخطيرة للأمن العام” المرتبطة بالهجرة. وبعد تولي المستشار فريدريش ميرز منصبه، تم تعزيز هذه الرقابة، مما أثار اعتراضات متكررة من جيرانها، خاصة بولندا والتشيك.
رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك اعتبر عمليات التفتيش “غير مقبولة”، بينما دعا وزير الداخلية التشيكي فيت راكوشان برلين إلى تقليص تأثيرها على حركة التنقل عبر الحدود.
لوكسمبورغ: قلعة شنغن تدافع عن تراثها
القلق الأكبر يأتي من لوكسمبورغ، مهد اتفاقية شنغن التي تم توقيعها على متن سفينة قرب بلدة شنغن عام 1985. وقدمت الحكومة اللوكسمبورغية شكوى رسمية إلى المفوضية الأوروبية احتجاجًا على القيود الألمانية، التي تؤثر يوميًا على آلاف المسافرين الذين يعبرون الحدود للعمل أو الدراسة.
“منطقة السفر الحر مشروع حي يعتمد على يقظتنا وإيماننا بأوروبا بلا حواجز”، قال وزير الداخلية ليون جلودن، مؤكدًا أن بلاده تتحمل “مسؤولية خاصة في الحفاظ على روح شنغن حية”.
لوكسمبورغ لم تكتفِ بالكلمات، بل أنشأت عنوان بريد إلكتروني لتلقي شكاوى المواطنين المتضررين من القيود الجديدة، في خطوة تعكس تصميماً على مواجهة ما تعتبره انحرافًا عن المبادئ الأصلية للاتحاد.
الهجرة: الكلمة السحرية لتبرير القيود
الهجرة غير النظامية كانت ولا تزال المبرر الأساسي لعودة الرقابة. ألمانيا، سلوفينيا، إيطاليا، النمسا، هولندا، فرنسا وبلغاريا كلها استندت إلى هذه الذريعة.
لكن منتقدي هذه السياسة، مثل لوبيز أغيلار، يرون أن “المفوضية الأوروبية فشلت في اختبار مدى شرعية وضرورة هذه الإجراءات”، مكتفية بـ”عبارات مبهمة” من قبيل “نتابع الوضع عن كثب” و”نخوض حوارًا منظمًا”.
وفي أحدث تقييم سنوي لمنطقة شنغن، قالت المفوضية إن الرقابة الحدودية “يجب أن تبقى استثناءً”، وإن الاتصالات مع الدول الأعضاء “وثيقة”، لكن التقرير لم يقدّم إطارًا حازمًا لضبط هذه الممارسات أو منع تحولها إلى قاعدة.
تطور طبيعي أم تراجع خطير؟
البعض، مثل وزير الداخلية البلجيكي برنارد كوينتين، يرى في هذه الإجراءات تطورًا طبيعيًا للأطر القانونية، في ظل “تغير العالم كثيرًا بين 1985 و2025”.
وأشار إلى أن بلجيكا قد تضطر هي الأخرى لإعادة بعض الضوابط “لتنفيذ خطط الهجرة القوية”، لكن مع التشديد على “عدم إغلاق الحدود”.
من جهته، قال المفوض الأوروبي للهجرة والشؤون الداخلية، ماجنوس برونر، إن “استمرار شنغن ونموها يتطلب تعزيز حماية الحدود الخارجية، وتعاونًا أمنيًا فاعلًا”، مؤكدًا التزام المفوضية بدعم أجهزة إنفاذ القانون في مواجهة التهديدات.
الحدود في العقول
لكن المسؤولين في لوكسمبورغ يردّون على ذلك بلهجة مختلفة. “من الضروري تفكيك الحدود في أذهان الناس، وليس إعادة بنائها”، قال الوزير جلودن، في دعوة إلى استعادة روح شنغن كمشروع للوحدة، لا منصة للانعزال.
وبينما تُحيي أوروبا الذكرى الأربعين لاتفاق شنغن، فإنها تواجه سؤالاً وجودياً: هل تظل الحدود مجرد خطوط وهمية على الخريطة، أم تعود لتصبح جدرانًا حقيقية تفصل بين الأوروبيين من جديد؟