العثور على عشرات الجثث في مستشفى ليبي يسيطر عليه جهاز دعم الاستقرار

في واحدة من أكثر الوقائع دموية وإثارة للقلق في العاصمة الليبية منذ أشهر، أعلنت وزارة الداخلية الليبية، مساء الإثنين، العثور على 58 جثة في ثلاجات الموتى بمستشفى الحوادث في حي أبو سليم، أحد أكثر الأحياء اكتظاظًا بالسكان في طرابلس، والذي كان حتى وقت قريب خاضعًا لسيطرة جهاز دعم الاستقرار، وهي ميليشيا نافذة شاركت في الاشتباكات الأخيرة في المدينة.

وقالت الوزارة، التابعة لحكومة الوحدة الوطنية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، إن الجثث عُثر عليها دون أن تُبلَّغ السلطات الأمنية بها، في ما وصفته بأنه “خرق خطير للقانون الجنائي والإجراءات الطبية”. وأضافت أن 35 من الضحايا لم تُحدد هوياتهم بعد، ما يثير التساؤلات حول طبيعة الأشخاص المقتولين، والجهات التي قامت بتصفيتهم أو احتجازهم داخل المستشفى.

صور صادمة وتحقيقات جنائية جارية

نشرت الوزارة صورًا للجثث على الإنترنت، وُضعت على أسرّة المستشفى، مع تغطية وجوههم لأسباب تتعلق بالخصوصية. وبدا أن بعض القتلى مصابون بحروق، ما يعزز من فرضية تعرضهم للتعذيب أو القتل بوسائل عنيفة. وأفادت الوزارة بأنه “تم حتى الآن فحص 23 جثة، وجُمعت العينات الحيوية اللازمة، في حين تستمر التحقيقات لتحديد الهويات وظروف الوفاة”.

وتابعت الوزارة في بيانها أن الجثث كانت “مخزنة لفترة غير معروفة داخل المستشفى دون إخطار الشرطة”، مما يشير إلى وجود محاولة متعمدة لإخفاء وجودهم عن أعين السلطات، وهو ما يعكس حجم الانفلات الأمني داخل مؤسسات يُفترض أنها تخضع لإدارة الدولة.

ارتباط بالاحداث الأخيرة: مقتل غنيوة نقطة التحول

ويأتي هذا الاكتشاف بعد أيام فقط من مقتل عبد الغني الككلي، المعروف باسم “غنيوة”، قائد جهاز دعم الاستقرار، والذي أدى غيابه المفاجئ إلى انفجار مواجهات دامية بين فصيله ومليشيات أخرى موالية لرئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة.

وقد أسفرت الاشتباكات، بحسب بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، عن مقتل ما لا يقل عن ثمانية مدنيين، بينهم نساء وأطفال، إضافة إلى عدد غير محدد من عناصر الميليشيات. ولم تصدر الحكومة الليبية حتى الآن حصيلة رسمية للضحايا، في حين دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ يوم الأربعاء الماضي.

وتُعد منطقة أبو سليم معقلًا تقليديًا لجهاز دعم الاستقرار، الذي تشكل في سياق الصراع الليبي متعدد الأطراف، وكان يتمتع بتمويل واسع وتسليح جيد، إلى جانب نفوذ واسع داخل المؤسسات الأمنية والمالية في طرابلس.

جثث أخرى في منشأة ثانية

وتزامن الإعلان عن الجثث في مستشفى الحوادث مع تقارير سابقة، يوم السبت الماضي، تحدثت عن العثور على تسع جثث أخرى في مخزن تبريد داخل مستشفى الخضراء، وهو مركز طبي آخر في أبو سليم خاضع أيضًا لجهاز دعم الاستقرار. وذكرت وزارة الداخلية على منصة “إكس” أن تحقيقًا جنائيًا قد فُتح في الواقعتين، دون تقديم تفاصيل إضافية حول ما إذا كان هناك رابط مباشر بين الجثث والاشتباكات الأخيرة.

دبيبة يتعهد بالقضاء على الميليشيات

في خضم هذه الفوضى، حاول رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة إظهار موقف حازم تجاه الميليشيات، معلنًا أن حكومته تعمل على “القضاء على جميع الجماعات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة”. وقال في خطاب متلفز السبت الماضي: “سنرحب بكل من يختار الوقوف إلى جانب الدولة، وسنُقصي من يلجأ إلى الابتزاز والفساد”.

وأضاف أن بعض الميليشيات “توسعت بشكل مفرط، لدرجة أنها أصبحت تسيطر على المشهد السياسي والمالي والاقتصادي وحتى الاجتماعي”، في إشارة واضحة إلى أجهزة مثل دعم الاستقرار، التي كانت تُعتبر لسنوات ذراعًا أمنية موازية، قبل أن ينقلب مزاج السلطة ضدها.

ولتأكيد جدية هذه الحملة، نشرت الحكومة الليبية الإثنين مقطع فيديو يُظهر جرافات تهدم أحد المعسكرات التابعة لجهاز دعم الاستقرار في طرابلس، وقالت السلطات إن الأرض التي أُزيلت ستُحول إلى “حديقة وطنية”، كرمز لاستعادة الدولة للسيادة على الفضاء العام.

احتجاجات شعبية ومطالب باستقالة الدبيبة

رغم هذه التصريحات، شهدت العاصمة طرابلس احتجاجات شعبية في الأيام الأخيرة، حيث نزل مئات المواطنين إلى الشوارع تنديدًا بالعنف، ورفع بعضهم لافتات تطالب برحيل الدبيبة، متهمين الحكومة بالفشل في كبح جماح الميليشيات وإعادة الاستقرار إلى البلاد.

وقال أحد المتظاهرين في ساحة الشهداء: “نحن لا نعرف من يحكم هذه المدينة، هل هي الحكومة أم الميليشيات؟”، وأضاف: “الأمن مفقود، والناس تموت في المستشفيات، بينما السياسيون يتبادلون البيانات”.

ليبيا بين حكومتين وسلاح منفلت

وتُعاني ليبيا منذ عام 2014 من انقسام سياسي حاد بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، التي يقودها الدبيبة، وإدارة موازية في شرق البلاد تسيطر عليها عائلة المشير خليفة حفتر، قائد ما يُعرف بـ”الجيش الوطني الليبي”. وبين هذين القطبين المتصارعين، ازدهرت شبكات من الجماعات المسلحة التي ملأت فراغ السلطة وتغلغلت في مؤسسات الدولة.

ورغم توقف العمليات العسكرية الكبرى منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، فإن الاشتباكات بين الميليشيات تندلع بين الحين والآخر في العاصمة ومحيطها، وغالبًا ما تسفر عن سقوط قتلى وتدمير ممتلكات عامة.

وفي أغسطس 2023، قُتل ما لا يقل عن 55 شخصًا في طرابلس نتيجة اشتباكات عنيفة بين فصيلين مسلحين، ما يوضح أن مشهد العنف لم يُحسم، وأن الدولة لا تزال عاجزة عن احتكار استخدام القوة.

طريق طويل نحو الاستقرار

تكشف واقعة الجثث في مستشفيات طرابلس، وما تلاها من أحداث، عن حجم التحديات الأمنية والإنسانية التي تواجهها ليبيا في سعيها نحو بناء دولة مستقرة ومتماسكة. ومع تعقّد المشهد السياسي وتضارب المصالح المحلية والإقليمية، يبدو أن تفكيك الميليشيات وإعادة بناء المؤسسات الأمنية والقضائية سيكونان مفتاحًا أساسيًا لأي انتقال حقيقي نحو السلام.

لكن، في ظل استمرار الانقسام والانفلات، يبقى السؤال معلقًا: من يملك القرار في ليبيا اليوم؟ وهل يكفي خطاب سياسي غاضب لوقف دوامة العنف، أم أن البلاد تحتاج إلى توافق وطني شامل وتدخل دولي جاد لإعادة الأمور إلى نصابها؟

قد يعجبك ايضا